الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
هذه السورة مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} قوله تعالى{سبحان } اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنه لا يجرى بوجوه الإعراب، ولا تدخل عليه الألف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لأن في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره؛ فأما قول ا لشاعر: فإنما ذكره على طريق النادر. قوله تعالى {أسرى بعبده} {أسرى} فيه لغتان: سرى وأسرى؛ كسقى وأسقى، كما تقدم. قال: وقال آخر: فجمع بين اللغتين في البيتين. والإسراء: سير الليل؛ يقال: سريت مسرى وسرى، وأسريت إسراء؛ قال الشاعر: وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره؛ والأول أعرف. قوله تعالى{بعبده} قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وفي معناه أنشدوا: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي وقد تقدم. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعا للأمة. ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الإسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حين الإسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الإسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده؛ فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهي مما ينبغي الوقوف عليها والبحث عنها، وهي أهم من سرد تلك الأحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى. فأما وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت؛ فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبي: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعني في الإسراء فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلي ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروي عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبي الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبي المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهي تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله (فصارت سنة) قول منكر، وكذلك استثناء الشعبي المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها. قد مضى الكلام في الأذان في المائدة والحمد لله. ومضى في آل عمران أن أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى. وأن بينهما أربعين عاما من حديث أبي ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الأقصى ودعاؤه له من حديث عبدالله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك؛ فتأمله هناك فلا معنى للإعادة. قوله تعالى{إلى المسجد الأقصى} سمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة، ثم قال{الذي باركنا حوله} قيل: بالثمار وبمجاري الأنهار. وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله مقدسا. والآيات التي أراه الله من العجائب التي أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الأقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. {إنه هو السميع البصير} تقدم. {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا} أي كرمنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة. {وجعلناه} أي ذلك الكتاب. وقيل موسى. وقيل معنى الكلام: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب؛ فخرج من الغيبة إلى الإخبار عن نفسه جل وعز. وقيل: إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، معناه أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا } أي يا ذرية من حملنا، على النداء؛ قال مجاهد ورواه عنه ابن أبي نجيح. والمراد بالذرية كل من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الأرض؛ ذكره المهدوي. وقال الماوردي: يعني موسى وقومه من بني إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا ليذكرهم نعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم. وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ (ذرية) بفتح الذال وتشديد الراء والياء. وروى هذه القراءة عامر بن الواجد عن زيد بن ثابت. وروي عن زيد بن ثابت أيضا {ذرية} بكسر الذال وشد الراء. ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد لله. كذا روى عنه معمر. وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ من الأكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسي: لأنه كان يحمد الله على طعامه. وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لأجاعني، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني، وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء لأحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال. وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح. وقيل: يجوز أن يكون {ذرية} مفعولا ثانيا {لتتخذوا} ويكون قوله{وكيلا} يراد به الجمع فيسوغ ذلك في القراءتين جميعا أعني الياء والتاء في {تتخذوا}. ويجوز أيضا في القراءتين جميعا أن يكون {ذرية} بدلا من قوله {وكيلا} لأنه بمعنى الجمع؛ فكأنه قال لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعني وأمدح، والعرب قد تنصب على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في {تتخذوا} في قراءة من قرأ بالياء؛ ولا يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لأن المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من بني إسرائيل في الوجهين. فأما {أن} من قوله {ألا تتخذوا} فهي على قراءة من قرأ بالياء في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من الإعراب، وتكون {لا} للنهي فيكون خروجا من الخبر إلى النهي. {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} قوله تعالى{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية في الكتب على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع؛ فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى {قضينا} أعلمنا وأخبرنا؛ قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا؛ وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا؛ ولذلك قال{إلى بني إسرائيل}. وعلى قول قتادة يكون {إلى} بمعنى على؛ أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. {لتفسدن} وقرأ ابن عباس {لتفسدن}. عيسى الثقفي {لتفسدن}. والمعنى في القراءتين قريب؛ لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. {في الأرض} يريد أرض الشام وبيت المقدس وما والاها. {مرتين ولتعلن} اللام في {لتفسدن ولتعلن} لام قسم مضمر كما تقدم. {علوا كبيرا} أراد التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان. {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} قوله تعالى{فإذا جاء وعد أولاهما} أي أولى المرتين من فسادهم. {بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد} هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه؛ قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل؛ ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد؛ ذكره النحاس. وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بني إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بختنصر، فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا؛ فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم. وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا. وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة؛ وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج أمرهم وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم؛ فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى{ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار} هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم. وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا؛ وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبي. وقرأ ابن عباس: (حاسوا) بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل. وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها؛ وكذلك الاجتياس. والجوسان (بالتحريك) الطوفان بالليل؛ وهو قول أبي عبيدة. وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين؛ فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم؛ وأنشد لحسان: وقال قطرب: نزلوا؛ قال: {وكان وعدا مفعولا} أي قضاء كائنا لا خلف فيه. {ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } قوله تعالى{ثم رددنا لكم الكرة عليهم} أي الدولة والرجعة؛ وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. {وأمددناكم بأموال وبنين} حتى عاد أمركم كما كان. {وجعلناكم أكثر نفيرا} أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته؛ يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد؛ قال الشاعر: والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا؛ جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة. {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} قوله تعالى{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} أي نفع إحسانكم عائد عليكم. {وإن أسأتم فلها} أي فعليها؛ نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال: أي على اليدين وعلى الفم. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعني وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الإساءة؛ لقوله تعالى قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه... )وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: (بعث يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا دخلت على الملك فقال ألك حاجة فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا؛ فقال: سليني سوى هذا! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبي. وعن ابن عباس قال: (أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا). وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي؛ وحمرتها بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله؛ قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة؛ فقيل: بختنصر. وقاله القشيري أبو نصر، لم يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الإسكندر؛ وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بختنصر إذ ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها. وقال الثعلبي: ومن روى أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والأخبار؛ لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعيا وفي عهد إرمياء. قالوا: ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين سنة. قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى - وبعض الناس يقول: لما قتلوا زكريا - بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشأم، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلي، فسألهم فقالوا: دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا بني إسرائيل، أصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته. فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق الأبواب وقال: أخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس، وخلا في بني إسرائيل وقال: يا نبي الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب إني آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به؛ فأوحى الله تعالى إلى رأس من رؤوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفني بني إسرائيل. قلت: قد قوله تعالى{فإذا جاء وعد الآخرة{ أي من المرتين؛ وجواب {إذا{ محذوف، تقديره بعثناهم؛ دل عليه {بعثنا{ الأول. {ليسوؤوا وجوهكم{ أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم؛ فـ{ليسوؤوا{ متعلق بمحذوف؛ أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة؛ أي ليذلوهم. وقرأ الكسائي {لنسوء{ بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن نفسه معظم، اعتبارا بقوله {وقضينا - وبعثنا - ورددنا{. ونحوه عن علي. وتصديقها قراءة أُبَي (لنسوءن) بالنون وحرف التوكيد. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر (ليسوء) بالياء على التوحيد وفتح الهمزة؛ ولها وجهان: أحدهما: ليسوء الله وجوهكم. والثاني: ليسوء الوعد وجوهكم. وقرأ الباقون {ليسوؤوا{ بالياء وضم الهمزة على الجمع؛ أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا{ أي ليدمروا ويهلكوا. وقال قطرب: يهدموا؛ قال الشاعر: {ما علوا{ أي غلبوا عليه من بلادكم {تتبيرا}. {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} قوله تعالى{عسى ربكم أن يرحمكم{ وهذا مما أخبروا به في كتابهم. و{عسى{ وعد من الله أن يكشف عنهم. و{عسى{ من الله واجبة. {أن يرحمكم{ بعد انتقامه منكم، وكذلك كان؛ فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. {وإن عدتم عدنا{ قال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ فهم يعطون الجزية بالصغار؛ وروي عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره 0 وقال القشيري: وقد حل العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين. وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا{ أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الأصمعي: هو ما بين العرق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك؛ لأنه محجوب. قال لبيد: ويروى: على أن يكون (غلب) به لا من (مقامة) كأنه قال: ورب غلب الرقاب. وروي عن أبي عبيدة: أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس؛ قال الله تعالى{وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا{. قال القشيري: ويقال للذي يفرش حصير؛ لحصر بعضه على بعض بالنسج. وقال الحسن: أي فراشا ومهادا؛ ذهب إلى الحصير الذي يفرش، لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما} قوله تعالى{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم{ لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بني إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين أن الكتاب الذي أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى {للتي هي أقوم{ أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب؛ فـ {التي{ نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة إلى نص أقوم. وقال الزجاج: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله. وقاله الكلبي والفراء. قوله تعالى{ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات{ تقدم. {أن لهم{ في موضع نصب بـ {بشر{ وقال الكسائي وجماعة من البصريين{أن{ في موضع خفض بإضمار الباء. أي بأن لهم. {أجرا كبيرا{ أي الجنة. {وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة{ أي ويبشرهم بأن لأعدائهم العقاب. والقرآن معظمه وعد ووعيد. وقرأ حمزة والكسائي {ويَبْشُر{ مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد ذكر. {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} قوله تعالى{ويدع الإنسان بالشر{ قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. {دعاءه بالخير{ أي كدعائه ربه أن يهب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. نظيره وأسجد بالليل حتى الصباح واتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل قال الجوهري: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من {ويدع الإنسان{ في اللفظ والحظ ولم تحذف في المعنى لأن موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة؛ كقوله تعالى {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا} قوله تعالى{وجعلنا الليل والنهار آيتين{ أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل واحد منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا. {فمحونا آية الليل{ ولم يقل: فمحونا الليل، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و{محونا{ معناه طمسنا. وفي الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور، والسواد الذي يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس، فالشمس على مائة وتسع وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس؛ فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقي نوره؛ فالسواد الذي ترونه في القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر عنه الأول الثعلبي والثاني المهدوي؛ وسيأتي مرفوعا. وقال علي رضي الله عنه وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التي في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. {وجعلنا آية النهار مبصرة{ أي جعلنا شمسه مضيئة للأبصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها. وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا؛ فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء. {لتبتغوا فضلا من ربكم{ يريد التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في موضع آخر {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} قوله تعالى{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه{ قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال ابن عباس{طائره{ عمله وما قدر عليه من خير وشر، وهو ملازمه أينما كان. وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة فيها مكتوب شقي أو سعيد. وقال الحسن{ألزمناه طائره{ أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند القسمة في الأزل. وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه إلزام الشرع، وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. {ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا{ يعني كتاب طائره الذي في عنقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد{طيره{ بغير ألف؛ ومنه ما روي في الخبر (اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك). وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب {ويخرج{ بفتح الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا؛ فـ {كتابا{ منصوب على الحال. ويحتمل أن يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب {ويخرج{ بضم الياء وكسر الراء؛ وروي عن مجاهد؛ أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميقع، وروي أيضا عن أبي جعفر{ويخرج{ بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون {ونخرج{ بنون مضمومة وكسر الراء؛ أي ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله {ألزمناه{. وقرأ أبو جعفر والحسن وابن عامر {يلقاه{ بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال {منشورا{ تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة. وقال أبو السوار العدوي وقرأ هذه الآية {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه{ قال: هما نشرتان وطية؛ أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت؛ فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت. {اقرأ كتابك{ قال الحسن: يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي. {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا{ أي محاسبا. وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه، أنت كنت المملي على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك. {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} قوله تعالى{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها{ أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره؛ فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. {ولا تزر وازرة وزر أخرى{ تقدم في الأنعام. وقال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لأهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلي أوزاركم، فنزلت هذه الآية؛ أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزرة، أي أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار؛ ومنه نزعت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله. قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية؛ فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث؛ فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة: وقال: وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوحهم؛ لأنه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك؛ وبترك ما أمره الله به من قوله قوله تعالى{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا{ أي لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في البقرة القول فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا؛ أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى قلت: هذا موقوف، وسيأتي مرفوعا في آخر سورة (1) {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لأنه يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، ولا خلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى. {أمرنا{ قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن {أمرنا{ بالتشديد، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدي {أمرنا{ بتشديد الميم، جعلناهم أمراء مسلطين؛ وقاله ابن عزيز. وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلى وابن عباس باختلاف عنهما {آمرنا{ بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها؛ قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته، لغتان بمعنى كثرته؛ وآمر الله ماله: بالمد: الثعلبي: ويقال للشيء الكثير أمر، والفعل منه: أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا: أمر أمر بني فلان؛ قال لبيد: إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد قلت: قوله تعالى{فدمرناها{ أي استأصلناها بالهلاك. {تدميرا{ وذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم. {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} قوله تعالى{وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح{ أي كم من قوم كفروا حل بهم البوار. يخوف كفار مكة، وقد تقدم. {وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا{ {خبيرا{ عليما بهم. {بصيرا{ يبصر أعمالهم؛ وقد تقدم. {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} قوله تعالى{من كان يريد العاجلة{ يعني الدنيا، والمراد الدار العاجلة؛ فعبر بالنعت عن المنعوت. {عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد{ أي لم نعطه منها إلا ما نشاء ثم نؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار. {مذموما مدحورا{ أي مطردا مبعدا من رحمة الله. وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم. وقد تقدم في {هود{ أن هذه الآية تقيد الآيات المطلقة؛ فتأمله. {ومن أراد الآخرة{ أي الدار الآخرة. {وسعى لها سعيها{ أي عمل لها عملها من الطاعات. {وهو مؤمن{ لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن. {فأولئك كان سعيهم مشكورا{ أي مقبولا غير مردود. وقيل: مضاعفا؛ أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر، وإلى سبعين وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة؛ {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا، لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا} قوله تعالى{كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك{ اعلم أنه يرزق المؤمنين والكافرين. {وما كان عطاء ربك محظورا{ أي محبوسا ممنوعا؛ من حظر يحظر حظرا وحظارا. ثم قال تعالى{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض{ في الرزق والعمل؛ فمن مقل ومكثر. {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا{ أي للمؤمنين؛ فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة، وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم؛ فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها. وقوله{لا تجعل مع الله إلها آخر{ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وقيل: الخطاب للإنسان. {فتقعد{ أي تبقى. {مذموما مخذولا{ لا ناصر لك ولا وليا. {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} قوله تعالى{وقضى{ أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر. وفي مصحف ابن مسعود {ووصى{ وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلي وغيرهما، وكذلك عند أبي بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو {ووصى ربك{ فالتصقت إحدى الواوين فقرئت {وقضى ربك{ إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم {وصى بقضي{ حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا؛ قال الله تعالى فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله؛ لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا. فقال: إنك قد عصيت ربك وبانت منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك علي فقال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك أي ما أمر الله به، وقرأ هذه الآية{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه{. أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا{. وقال من البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة؛ عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما؛ كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته. ا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد؛ قال الله تعالى من الإحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما. قلت: وفي هذه الأحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الأهم منها. وقد استوفى هذا المعنى المحاسبي في كتاب الرعاية. واختلفوا في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؛ فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعي: له أن يغزو بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء، والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الأخوة وسائر القرابات. وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل. من تمام برهما صلة أهل ودهما؛ قوله تعالى{إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما{ خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر؛ فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه؛ فلذلك خص هذه الحالة بالذكر. وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال{فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما{. قوله تعالى{فلا تقل لهما أف{ أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم. وعن أبي رجاء العطاردي قال: الأف الكلام القذع الرديء الخفي. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف. والآية أعم من هذا. والأف والتف وسخ الأظفار. ويقال لكل ما يضجر ويستثقل: أف له. قال الأزهري: والتف أيضا الشيء الحقير. وقرئ {أف{ منون مخفوض؛ كما تخفض الأصوات وتنون، تقول: صه ومه. وفيه عشر لغات: أف، وإف، وأف، وأفا وأف، وأفه، وإف لك (بكسر الهمزة)، وأف (بضم الهمزة وتسكين الفاء)، وأفا (مخففة الفاء). قوله تعالى{ولا تنهرهما{ النهر: الزجر والغلظة. {وقل لهما قولا كريما{ أي لينا لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه، من غير أن يسميهما ويكنيهما؛ قال عطاء. وقال ابن البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله{وقل لهما قولا كريما{ ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب السيد الفظ الغليظ. قوله تعالى{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة{ هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة؛ كما أشار إليه سعيد بن المسيب. وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده. والذل: هو اللين. وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذال وذليل. وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير {الذل{ بكسر الذال، ورويت عن عاصم؛ من قولهم: دابة ذلول بينة الذل. والذل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب. الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته؛ إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذل في قوله تعالى قوله تعالى{وقل رب ارحمهما{ أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، وأن ترحهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا بك؛ إذ ولياك صغيرا جاهلا محتاجا فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر، فتلي منهما ما وليا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم. قوله تعالى{كما ربياني{ خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتبعهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، كما تقدم. وذكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن علي بمال دون مالك تبخل قال: فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: (أنت ومالك لأبيك)
|